مجمع نيقية المسكوني الأول عام 325م لمواجهة بدعة أريوس
ولد أريوس في القيروان (ليبيا) عام 270م، وبسبب إلمامه بعلوم كثيرة ولفصاحته ومحبته للمجد الباطل كان يسعى دائماً لنيل الوظائف الكنسية، فجاء إلى الأسكندرية ودخل المدرسة اللاهوتية وتقدم في علومها، فرسمه البابا بطرس (17) شماساً فقساً.. وإبتدع أريوس بدعته ومؤداها أن الإبن ليس مساوياً للآب في الأزلية وليس من جوهره، وأن الآب كان في الأصل وحيداً فأخرج الإبن من العدم بإرادته، وأن الإبن إله لحصوله على لاهوت مكتسب، وهو الواسطة التي خلق بها الآب الكون.. وكان في أول أمره يبث تعاليمه خفية، ولكن لما ذاع ضلاله جهاراً صار ينشر بدعته بواسطة التلحين، فكتب أبياتاً شعرية تحمل بدعته (في كتاب معروف بإسم " تاليا") ووقّعها على الآلآت الموسيقية وعلمها للشعب، وفي وقت وجيز إمتلأت بلاد الشرق بمؤلفات مشحونة بهرطقة أريوس.

حرمه أولاً البابا بطرس (وكان قد رأى السيد المسيح فى رؤيا بثوب مشقوق، فلما سأله ما الذي شق ثوبك يا سيدي؟ أجابه أريوس هو الذي مزق ثوبي فلا تقبله)، وأوصى من بعده أن لا يقبلوه أيضاً، فلما إستشهد، أظهر أريوس توبة زائفة أمام البابا أرشيلاوس (18) (فحله مخالفاً وصية أبيه) فلم يمهله الله على الكرسي البطريركي أكثر من ستة أشهر وتنيح بعدها، ورفض البابا ألكسندروس (19) كل مساعي أريوس لقبوله، وعقد مجمعاً بالأسكندرية مكون من مئة أسقف من ليبيا ومصر عام 321م وحرم أريوس، فلم يرضخ أريوس للحكم وظل على موقفه فطرده البابا من الإسكندرية، فذهب إلى فلسطين وعقد مع أتباعه من الأساقفة مجمعين الأول في بيثينية عام 322م والثاني في فلسطين عام 323م قرروا فيهما إلغاء الحرم، فرجع إلى الإسكندرية وإستفحل الخلاف بين الطرفين، فإضطر البابا أن يشهر حرمان أريوس ويطرده من المدينة مرة أخرى، وقام تلميذه الشماس أثناسيوس (وكان وقتها شاباً صغيراً 25 عاماً) بكتابة المنشور السنوي ضد بدعة أريوس وبين أن تعليمه يؤول إلى تعدد الآلهة وقياس الله الغير محدود بمقاييس بشرية والإيمان ببعض الكتاب دون البعض الآخر، ووقع على هذا المنشور 36 كاهن و44 شماس.

كان لأريوس واسطة لدى كونسطاسيا أخت الإمبراطور الروماني المسيحي قسطنطين الكبير(306- 337م)، فإستطاع بذلك إستمالة الإمبراطور إليه الذي أرسل إلى أوسيوس أسقف قرطبة (بأسبانيا)- وكان شيخاً فاضلاً معترفاً بالمسيح إبان إضطهاد مكسيميانوس، وأوصاه أن يذهب إلى الأسكندرية ليتمكن من صلح البابا مع أريوس، فلما حضر عقد مجمع بالأسكندرية عام 324م وفيه إشترك أوسيوس مع ألكسندروس في حرمان أريوس بعدما إضطلع على حقيقة الأمر، ثم عاد أوسيوس إلى قسطنطين وأعلن له رغبة البابا ألكسندروس في إقامة مجمع عام (مسكوني) فوافق.

ودعا الإمبراطور قسطنطين جميع أساقفة العالم وقتئذ لحضور مجمع عام في مدينة "نيقية" (وهي العاصمة الثانية لولاية بيثينية وتقع في الشمال الغربي لآسيا الصغرى، وموضعها الآن قرية أسنيك التركية) عام 325م لمحاكمة أريوس، فلبى الدعوة 381 أسقفاً من كل أقاليم العالم المسيحي، ومن المعلوم أن أوسيوس أسقف قرطبة أعتبر رئيساً للمجمع إلا أن الجميع سلموا للبابا ألكسندروس القبطي أن يتقدمهم في كل عمل لكونه الأعظم شأناً وعلماً وبحكم وظيفته أنه المدَّعى ضد أريوس (وكان هو المنفرد بلقب "بابا" في ذلك العصر، ولا يُعرَف به رسمياً سواه)، وكان بصحبة البابا ألكسندروس رئيس شمامسته وسكرتيره الخاص أثناسيوس الذي إنبرى للدفاع عن الإيمان الأرثوذكسي "المستقيم" (حتى أدهش جميع الأساقفة، وحتى أن الإمبراطور قسطنطين بنفسه أخذته الدهشة ونظر إليه وقال له "أنت بطل كنيسة الله") وأثبت بأسانيد كثيرة وقوية لاهوت السيد المسيح وأزليته ومساواته للآب في الجوهر، وإقترح كلمة "هومو أوسيوس" ( أى مساوى فى الجوهر) غير أن الأريوسيين أرادوا إستبدالها بكلمة "هومى أوسيوس" (أي مشابه في الجوهر)، فوافق المجمع على تعبير أثناسيوس وتم وضع قانون الإيمان، وقد وقع عليه أكثر من 300 أسقف، فلما إمتنع أريوس وأنصاره عن التوقيع حرمهم المجمع وتم نفي أريوس وحرق كتبه.
كما تم حرم سابيليوس وبدعته الذي أذاع أريوس أن معارضيه يقبلونها، وتم تجريد ميليتس المنشق من رتبته الكهنوتية، ثم بعد ذلك فصلوا في أمور أخرى مثل تحديد يوم عيد القيامة (حيث قرر المجمع أن يعيد جميع المسيحيون في موعد واحد هو يوم الأحد الذى يلي الفصح اليهودي، وقرر أن بطريرك الإسكندرية هو الذى يقوم سنوياً بإبلاغ أساقفة العالم عن موعد عيد القيامة)، ومشكلة معمودية الهراطقة (فأيد المجمع رأي الكنائس الشرقية في أنه لا تعاد معمودية من هرطق عند رجوعه، وأوجب إعادة معمودية من يعمدهم الهراطقة)، وقضية زواج الكهنة (حيث قرر المجمع السماح بالزواج للكهنة، وعدم زواج الكهنة المترملين، مع الإحتفاظ ببتولية الأساقفة).
بدأ المجمع أعماله في 20 مايو، وتم وضع قانون الإيمان في 19 يونيو، وختم المجمع أعماله في 25 أغسطس.

نهاية أريوس
لم يرتدع أريوس ولم يكف عن عناده، وواصل جهوده لدى الإمبراطور وأظهر أمامه إيمان ظاهري بالأرثوذكسية، فإنخدع وحكم ببراءته هو وجميع أتباعه الأساقفة وإعادتهم إلى كراسيهم، فأبى البابا أثناسيوس الإسكندري (20) (326- 373م) قبول أريوس، فما كان من الأريوسيون إلا أن أكالوا التهم الكاذبة عن أثناسيوس، فحكم قسطنطين بنفيه إلى مدينة تريف (بفرنسا) عام 335م وإعادة أريوس إلى مقامه بالإسكندرية، فما كاد أريوس يصل إليها حتى قامت قيامة مستقيمى الرأي وقفلوا أبواب الكنائس في وجهه فخشى الوالي من حدوث شغب وأمره بالخروج من البلاد المصرية فغادرها بلا رجعة إلى القسطنطينية.

رفض إسكندر بطريرك القسطنطينية (وكان شيخاً) قبول أريوس، غير أن الإمبراطور بقى مصراً على رأيه وعين يوماً لقبوله، فمضى البطريرك إلى الكنيسة حزيناً وجعل يذرف الدموع الساخنة طالباً إلى الله أن يصرف عن كنيسته هذا الخطب الذي ألم بها، وعند العصر إذ كان أتباع أريوس يطوفون به في أزقة المدينة بإحتفال عظيم حتى إنتهوا به إلى ساحة المدينة إعتراه رعب وإقشعرار فأحس كأن أحشائه قد تمزقت فسقط فجأة ميتاً، وقيل أنه فيما كان في وسط ذلك الزحام يوم دخول الكنيسة منتصراً فلم يكن يدنو منها حتى شعر بنفسه مضطراً إلى قضاء حاجته فإنفرد في مكان خفي ولما أبطأ في الرجوع ذهبوا إليه فوجدوه ميتاً مطروحاً على وجهه ملطخاً بدمائه وأمعاؤه مندلقة إلى الأرض بين الأقذار.

كرامة البابا أثناسيوس
صمم قسطنطين على إعادة القديس أثناسيوس إلى كرسيه فلم يمهله الأجل، وبعد موته إستولى إبنه قسطنس الأريوسى على الشرق وقسطنطين الثاني الأرثوذكسي على الغرب، وقيل أن قسطنطين الكبير أوصى قبل موته بالبابا أثناسيوس فطلبه إبنه مستقيم الإيمان قسطنطين من منفاه وطيب خاطره وأعاده إلى مركزه بكرامة عظيمة سنة 338م فقوبل بإحتفال شديد من الشعب المصرى بما لا يوصف.
إستمر الأريوسيون في محاربتهم للبابا أثناسيوس بمساندة الإمبراطور قسطنس الأريوسي العقيدة، ووقف لهم البابا أثناسيوس وقفة الأبطال، حتى كانت جملة مرات عزله ونفيه عن كرسيه خمسة مرات، وفي كل مرة يعيده الله إلى كرسيه بكرامة عظيمة.

وهذا ولما كان هذا الرجل العظيم قد ساهم الرسل في جهادهم المدهش عن الإيمان القويم، فقد جمّلته الكنيسة بلقب "الرسولي"، كما إستحق عن جدارة لقب "حامي الإيمان"، وأبلغ وصف لعظم ذلك الجهاد الذي قام به أثناسيوس ذلك المثل الذي إشتهر حينئذ القائل "كل العالم ضد أثناسيوس وأثناسيوس ضد العالم"، وقال أحدهم "لعل الترجمة اللاتينية لهذه العبارة التاريخية أصل المثل الإفرنجى المشهور
 أي (أثناسيوس ضد العالم) الذي يضرب لمن يثبت على رأيه رغم إجماع الناس على معارضته"، فلا عجب إذ نظم فيه أحد شعراء الفرنجة قصيدة أسماها "القيثارة الرسولية".
وبلغ إعجاب الغربيين به أن نقلوا رفاته تدريجياً نحو بلادهم من الإسكندرية إلى القسطنطينية فالبندقية ففرنسا فأسبانيا، وأخيراً فقد أحضر رفاته إلى مصر بكرامة عظيمة قداسة البابا شنودة الثالث (117) "أثناسيوس القرن العشرون" في 10 مايو سنة 1973م وأودعها في مزار خاص بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية.

بركة هذا القديس القبطي العظيم فلتكن معنا أجمعين.